Search
Close this search box.

أربعون عاما على استشهاد الشاعر علي فودة

إضافة عنوان (6)

وفا- يامن نوباني- قبل أربعين عاماً، أصابت قذيفة اسرائيلية الشاعر والمقاتل علي فودة (حيفا 1946- بيروت 1982)، لينقل إلى المستشفى بجروح خطيرة، لكن خللاً في دقة معرفة حالته بسبب العدوان الإسرائيلي على بيروت أشاع استشهاده، لتبدأ المرثيات، التي سيقرأها فودة قبل أن يُغمض عينيه بعد أيام قليلة.

ولد فودة في حيفا عام 1946، تبادلته المخيمات والمنافي، فكتب الرائعة الوطنية: “إن اخترتك يا وطني”، قبل أن يستشهد في بيروت بتاريخ 20 آب 1982.

ففي منتصف آب/ أغسطس 1982، وفي ذروة اشتداد القصف الإسرائيلي لبيروت من الجو والبر والبحر، كان علي فودة يوزّع على المقاتلين في عين المريسة ببيروت، جريدته التي أسسها مع زميله رسمي أبو علي، وأطلق عيها اسم “الرصيف”. وكانت تلك آخر لحظاته في جبهة القتال مع الثورة الفلسطينية، كاتباً ومناضلاً.

36  عاما هي السنوات التي عاشها فودة، وهو ذات العمر الذي عاشه الأديب الشهيد غسان كنفاني، الذي استشهد في بيروت أيضًا.

يقول الأديب جهاد صالح في مقال له بعنوان “علي فودة.. خبأ القنابل في دمه”: “عرفته، عندما كنت قائدًا لمحور “رأس النبع” في بيروت، بيده اليمنى رشاش المقاتلين، وفي اليد الأخرى مجلة “الرصيف” يوزّعها على المقاتلين الفلسطينيين واللبنانيين، وكان يُكثر من ذكر مخيم “نور شمس” والمخيمات الأخرى، والتقيته في “مطعم أم نبيل” في الفاكهاني، وعندما أعلنت له عن تحفظي على “فكرة المخيم” الذي بدأ يتصاعد في ظل بروز الهوية الفلسطينية النضالية، ضحك كثيرًا، وقال: لا أعتبر المخيم سوى عنوانًا للتشرد والمنفى. ولا يمكن أن يكون وطنًا لنا.

في صيف عام 1977، اتصل بي الأخ هادي حاوي، وكان مديرًا عامًا لصحيفة “النداء” الناطقة بلسان الحزب الشيوعي اللبناني، وأخبرني أنه سيزورني مع الفنان مارسيل خليفة. رحبت بهما، وطلبا الاجتماع مع علي فودة، لأن مارسيل قد وقع اختياره على نص في قصيدة علي فودة “الغضب، الفهد” في ديوانه “عواء الذئب”. حضر علي فودة، وتم الاتفاق على اختيار مقطع:

إني اخترتك يا وطني حبًا وطواعية

إني اخترتك يا وطني سرًا وعلانية

إني اخترتك يا وطني

فليتنكر لي زمني

ما دمت ستذكرني

يا وطني الرائع.. يا وطني

وما أن غنّاها مارسيل خليفة، حتى ارتفع صيت علي فودة، خاصة بعد أن غنّاها مارسيل في قاعة جمال عبد الناصر، في الجامعة العربية ببيروت، وعندما علا تصفيق الحاضرين، ما دفع بمارسيل أن ينزل إلى القاعة، ويصطحب معه علي فودة ليعلن أنه صاحب هذا النص، فعلا التصفيق مرة أخرى”.

الكاتب اللبناني إلياس خوري في روايته “باب الشمس” رصد استشهاد فودة، قائلا: “أذكر أنه جاء جريحًا إلى المستشفى، جلبوه مع جريح آخر، وكان الدم يغطيهما، الجريح الأول كان شبه ميت، ودمه متجمد على جسده اليابس. لا أعلم من كشف عليه وأعلن وفاته. فتمّ نقله إلى برّاد المستشفى تمهيدًا لدفنه. ثم اكتشفوا أنه حيّ، فنقل على عجل إلى غرفة العناية الفائقة، وهناك اكتشفنا أنه كان شاعرًا. الصحف التي صدرت في بيروت أثناء الحصار، نشرت عنه المراثي الطويلة، وعندما استيقظ الشاعر من موته، وقرأ المراثي شعر بسعادة لا توصف. كان وضعه الصحي ميؤوسًا منه، فقد أصيب في عموده الفقري وتمزقت رئته اليسرى، لكنه عاش يومين، وهو ما كان كافيًا ليقرأ كل ما كتب عنه، قال إنه سعيد، ولم يعد يهمه الموت، فلقد عرف اليوم معنى الحياة، من خلال الحب المصنوع من الكلمات. كان علي – وهذا هو اسمه- الميت السعيد الوحيد الذي رأيت في حياتي كأن كل آلامه امّحت. عاش في سريره، وسط أكوام المراثي، يومين جميلين، وحين مات، كان كل شيء قد سبق أن كتب عنه، فنشر نعيه الثاني في أسطر قليلة في الصحف”.

ويقول الكاتب نضال حمد: “يوم أحضروا علي فودة الى مستشفى الجامعة الأمريكية ببيروت، كنت صدفة في المكان، رأيته مضرجًا بدمه، شعره الشائب الأبيض وسرواله الكحلي المعروف.. قالوا إنه ميت، لكنه كان حيًا، عاش لأيام ثم استشهد متأثرًا بجروحه”.

وكتب الصحفي أمجد ناصر في علي فودة: “كان مولعًا بالضحك العالي. يوزّع الفوضى والضحكات العارمة. ودودًا وإنسانيًا على نحو لا يصدق. كان ثمة إشعاع حي في إحدى عينيه، لمعة حياة غريبة، بدا وكأنه يبتسم من خلال فمه الذي هشمته الشظايا، مغطى كله بالشاش الأبيض، وأشرطة وأنابيب رفيعة تتداخل في مواضع مختلفة من جسمه، آلات تنبض، أخرى ترسم خيوطًا بيانية.. إصابته بليغة جدًا، ولكن من المحتمل أن يعيش“.

أما الكاتب ناهض حتّر فكتب: “والآن مات علي مقاتلا، ليس علي فودة شيئًا هيّنا في حياتي، علمني فلسطين والحياة والشعر. ولد في قرية قنير في حيفا سنة 1946، وهجّر بعد أقل من عامين الى مخيم جنزور قرب جنين، وبعدها بعامين انتقل أهالي المخيم إلى مخيم نور شمس في طولكرم، وفي سن السابعة فقد أمه، وتزوج والده، فشعر علي بالغربة والضياع، لكنه أكمل تعليمه، ودرس في معهد المعلمين في حوارة ثم في إربد، وعمل مدّرسًا في أم عبهرة- مرج الحمام بالقرب من عمّان”.

ويروي الكاتب صبحي فحماوي أن فودة انتقل بعدها إلى التدريس في جبل النظيف، وفي الأشرفية والتاج والقلعة، وكان يسكن في طلعة المصدار في السبعينيات، في شقة تسوية مظلمة رطبة، تحت مستوى الأرض. نفى علي فودة نفسه من عمّان إلى الكويت عام 1975، فشعر بمزيد من الغربة هناك، فنفى نفسه اختياريًا إلى بغداد، حيث أقام فيها عامي 1976 و1977، ثم تمرد على واقعه، فانتقل إلى منفى عاشر وهو بيروت، حيث أصدر جريدة الرصيف مع رفاق له، والتي استشهد وهو يوزّعها على الرصيف، ففي ديوانه “فلسطيني كحد السيف”، يقول واصفًا صف اللاجئين، المنتظرين استلام مساعدات المؤن الغذائية من وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا):‏ واقف، وكيس الخيش بين يديّ واقف.. وصف العار كالأفعى، ومنذ الفجر واقف.. ‏وبين الصف من كانوا ذوي عز وجاه، والمعارف.. وشرطي يصرخ: لا تخالف! ثم يقول: “بعيداً عنك يا قنّير إني لم أنم أبدًا.. ولم أحلم فعمري كله سفر”‏.

ويضيف فحماوي في مقال نشره في جريدة الأسبوع الأدبي في العام 2006: كان الشهيد الشاعر يعرف أنه سائر إلى حتفه: (من غيري يا رب الغرباء، تطارده الأشباح… من حيفا، غزة، حتى الشيّاح!)، وفي ديوانه “عواء الذئب” يقول: تهواني تلك السيدة المدعوة (غربة)، وعن هذا التشرد الدائم يقول: “لجأت من البرد للورد، لكنهم طاردوني‏.. عبرت إلى النهر ما استقبلوني.. هرعت إلى البحر.. يا للفجيعة! خابت ظنوني”‏.

وكان علي فودة عضوًا مؤسسًا لرابطة الكتّاب الأردنيين، وكان نموذج الإنسان المتمرد، الساخط على حياة ليس له فيها وطن ولا أم. وعندما سألته ذات يوم: لماذا لا تتزوج يا علي، ما دمت تشعر بالوحدة؟ فقال: “أنا أبحث عن امرأة تفهمني، لا أريد امرأة تمشط لي شعري المقطقط، وكان شعره مقطقطًا، أريد امرأة تمشط لي خلايا دماغي، وتنظم لي أحاسيسي، وتضع كل قضية لي في خزانة خاصة، داخل خلايا مخي متشابك الأفكار والقضايا والآلام والمعاناة! أريد امرأة تريح لي عقلي المتعب، تضعه بين كفيها وتهدهده، كما كانت تربّت أمي على ظهري، وتهدهدني فأنام، وهذه المرأة لم أجدها بعد! وحسب اعتقادي الشخصي، فإن الشاعر الشهيد علي فودة، لم يكن قادرًا على الحب والزواج، لأنه كان محبًا ومتزوجًا الوطن؛ فلسطين! وكان قلبه طافحًا، لدرجة لا تستوعب معها أي حب آخر، وهذا الإغراق في الحب، هو الذي دفعه لتجاوز الخطوط الحمراء، فأطلقت عليه رصاصة الاستشهاد في بيروت.

.. بدأت ثقافة علي أمام بيتهم في المخيم، حيث كان يأتي حامل “صندوق العجب وتفرّج يا سلام”، فيدفع كل من الأطفال قرشًا، أو نصف قرش، لمشاهدة أفلام؛ عنتر وعبلة، والزير سالم أو أبو زيد الهلالي، أو حرب البسوس، وحرب داحس والغبراء، ولكن علي، الذي لم يكن يملك القرش ولا نصفه، كان يتحايل على الرجل، فيحضر له كأس ماء من الجرة، وأحيانًا رغيف خبز، فيتفرج بالمقايضة! وبعد انتهاء الفيلم، يمشي في الساحة، مقلدًا البطل، وهو يقول: ضيّعني أبي صغيرًا، وحمّلني دمه كبيرًا. وبعد تلك الثقافة، قرأ ثم كتب أشعارًا لذكرى بابلو نيرودا ولوركا وبريخت وفدوى طوقان، وإلى الشهداء غسان كنفاني وأبو علي إياد، وكمال ناصر، وأبو يوسف النجار، ولينا النابلسي، وكمال جنبلاط، فاستشهد مثلهم.

يقول في قصيدة: وجاء فتى من القوزاق حاورني.. أنت فلسطيني؟‏

– ولي بطاقة من السكّر والطحين.. مزق بطاقة العار، واحمل سلاح المجد مرفوع الجبين.‏

في ديوانه “عواء الذئب” يقول موضحًا أنه يسير باتجاه طلقة القناص، غير آبه بالموت: “لست أخشى طلقة القناص،…. ليس يميتني هذا الرصاص ولست أرهب قاتلي فكيف أموت… أنا الحجر الفلسطيني يا بيروت! ويقول: من يعرفني حقًا لا بدّ سيذكرني يومًا فيقول.. كان هنا حيًا بالأمس وها هو يرقد في بركة دم.. لكن حبيبته الأولى كانت.. زائرة الفجر فلسطين.

علي فودة.. شاعر الثورة والحياة”، هو الكتاب الذي صدر في العام 2014 في الأردن، وهو دراسة نقدية لكتابات فودة، وإضاءة على اسمه من قبل أصدقائه ومن قرأوا له.

يقول الكاتب عز الدين المناصرة على غلاف الكتاب: شخصية ثقافية، بسيطة، عفوية، مليئة بالطيبة، تعشق “الصعلكة” والعبثية أحيانًا..هذا هو علي فودة المولود في 1 نيسان 1946 في قرية قنّير- حيفا في فلسطين الشمالية.

درس فودة في مدارس طولكرم بعد نكبة 1948، ثم لجأت عائلته إلى الأردن، حيث تخرّج في دار المعلمين بحوارة/ إربد سنة 1966. غادر إلى بغداد سنة 1976، ومنها إلى بيروت، حيث كانت الثورة الفلسطينية تعيش مرحلتها اللبنانية. أصدر علي خمس مجموعات شعرية (1969-1982)، وعددًا من الروايات، كما أصدر مع رسمي أبو علي، مجلة “الرصيف” (1981- 1982) التي تأثرت بحركة الحداثة في الملحق الثقافي لصحيفة “النهار” اللبنانية. قمنا في سنة 2003 بجمع أشعاره وتحريرها وإصدارها في مجلد الأعمال الشعرية الكاملة، بمساندة ابنة أخيه التي كانت إحدى طالباتي في جامعة فيلادلفيا، وأمدتنا بما لديها من قصائد آنذاك.

أتذكر عندما جاءنا عضو في اللجنة المركزية لحركة فتح، خلال حصار بيروت (1982)، وأبلغنا أن علي فودة جرح جروحًا خطيرة، ونقل الى مستشفى الجامعة الأمريكية واستشهد فور وصوله.

هكذا تحمّس الزملاء في صحيفة “المعركة” التي كنت أدير تحريرها، فكتبوا مقالات رثائية حزينة، نشرناها بالفعل ونقلت الصحافة اللبنانية الثقافية الخبر عن صحيفة “المعركة”، لكن تبين لنا لاحقًا أن هناك التباسًا ما، لأن علي لم يكن قد توفي بعد، بل كان على قيد الحياة، حيث حدثت المفارقة المضحكة المبكية: لقد قرأ علي كل المقالات التي كتبت في رثائه، ثم أغمض عينيه إلى الأبد بتاريخ 20 آب 1982.

في هذا الكتاب يتذكره عدد من أحبائه وأحباء شعره ورواياته، بعد كل هذه السنوات، ويضيئون اسمه ليتعرف إليه أبناء الجيل الجديد الذين يرددون قصدية “إني اخترتك يا وطني” من دون أن يعرفوا من هو شاعرها.

كتب فيه الشاعر عبد الرحيم عمر عام 1980:

“… وهو يحب الوطن والأصدقاء والكتب والأطفال، مثلما يحب التضحية والرصاص الذي يطلقه على الغزاة…”.

ورثاه الشاعر محمد القيسي بعد استشهاده قائلا:

وكيف كان الأعداء

يعبئون بنادقهم لقتل الشاعر

وينصبون الكمائن

لأجمل الغزالات التي هيجها صوت النار

كيف كان العالم

وكيف كانت بيروت

إن هوى علي!

أطلقت على فودة عدة ألقاب منها: “شاعر الرصيف” و”شاعر الصعاليك” و”بائع الصحف”، “الغجري”، “عروة بن الورد الفلسطيني”، “ماياكوفسكي فلسطين“.

صدر له خمسة دواوين شعرية: فلسطيني كحدّ السيف (بيروت 1969)، وقصائد من عيون إمرأة (بيروت 1973)، وعواء الذئب (بيروت 1977) والغجري (بيروت 1981)، ومنشورات سرية للعشب (بيروت 1972)، كما صدر له عملان روائيان: الفلسطيني الطيب (بيروت 1979)، وأعواد المشانق (عمّان 1983).

آخر الأخبار

أحدث البرامج