مئة يوم من عدوان الاحتلال المتواصل على جنين، وفي قلبها مستشفى جنين الحكومي، الذي لم تُغلق أبوابه، والذي بقيت أنواره مضيئة رغم كل محاولات التضييق وقطع الكهرباء والماء، وظلت صرخات المواليد تنبعث منه لتعلو فوق صوت الدمار والنار.
نحن في جنين الحكومي، نؤدي واجبنا الإنساني فيه منذ أكثر من ثلاثة أشهر متواصلة وسط الحصار والاجتياح، هنا لا تسير الأمور بشكل طبيعي، بل نعمل بوتيرة استغاثة لا تتوقف، وكأن “الطوارئ” باتت نظاماً دائماً.
رغم تكرار استهداف محيط المستشفى، وانقطاع الكهرباء والمياه، واعتداءات الاحتلال على الطواقم وعرقلة عملهم وتفتيشهم عند الدخول والخروج منه، ما زال المستشفى يقدمُ خدماته لما يزيد عن 370 ألف نسمة، ويضم 200 سرير، ويعمل فيه 556 موظفاً بين طبيب، ممرض، إداري، مهن طبية مساندة، فنيون، ومسعفون.
2024 .. أصعب السنوات، عندما تنطق الأرقام بما هو أكثر من أرقام، خلاله، تعامل المستشفى مع 77 ألفَ حالة طوارئ، بينهم أكثر من 22 ألفَ حالة جرى إدخالها لاستكمال العلاج بعد الطوارئ بشكل فوري.
وفي هذا العام، أكثر 5 آلاف طفل ولدوا، وعلت أصوات صرخاتهم الأولى فوق صوت العدوان، بينهم نحو ألفان ولدوا بعمليات قيصرية.
هنا في جنين الحكومي لم تُغلق غرفة عمليات واحدة، وأجرت طواقمه ما يزيد على 3500 عملية جراحية، منها 409 مناظير طبية.
وفي قسم غسيل الكلى، حين تكون الدقيقة مسألة حياة، وتكون الكهرباء أولوية قصوى، يُعالج 200 مريض، عبر 35 جهاز غسيل كلى يعمل على أربع دفعات يومياً، وأي انقطاع في الماء أو الكهرباء يمكن أن يكون قاتلاً، ومع ذلك حرصنا أن لا تُسجل أي حالة تأجيل، من خلال إجرائها للمرضي في مراكز العلاج في المناطق القريبة، وتم إجراء نحو 28 ألفَ جلسة لـ 200 مريض.
ورغم الحصار، لم يُطفأ الأمل، وكان الاستمرار في العلاج وعداً بالثبات، وحياة تُنتزع من قلب العتمة، فقد تلقى نحو4500 مريض أورام علاجهم، متمسكين بكل قدرة تمنع عليهم تأجيل جلسات العلاج.
حتى جلسات المراجعة النفسية لم تكن أقل أهمية من الخدمات الأخرى لتؤجلَ لوقت تتحسن في الظروف، فقد سُجلت 7600 مراجعة نفسية خلال 2024، ليست الإصابات الظاهرة وحدها ما تكشفه الأرقام، هذا ما يعنيه وجع داخلي أعمق للمرضى والطواقم على حد سواء.
وفي كل عدوان، سيارات الإسعاف تُوقف وتُفتش على الحواجز العسكرية وعلى مدخل المستشفى، حتى أثناء نقل الحالات الحرجة، كلُّ تأخير يُحسب بأرواح تتأخر عنها النجدة، لا بالوقت والإجراءات، وهو ما يرافقه من آثار العدوان من تعرّض المستشفى لتدمير مباشر في بنيته التحتية بتكلفة وصلت لنحو نصف مليون شيقل، طالت تدمير بواباته، وتعرضه لإطلاق النار المتعمد، واستهدافه بقنابل الصوت والغاز التي ألحقت ضرراً متكرراً بالبشر والحجر.
المشفى… جبهة صمود
وزير الصحة د. ماجد أبو رمضان: “ما يفعله مستشفى جنين لا يمكن تصنيفه فقط كـ”خدمة صحية” فقط، بل هو موقف إنساني ومهني في وجه العدوان، وفي اليوم المئة من الحصار، لا يُسجَّل فقط استمرار الأداء، بل استمرار الحياة، وهنا أتوجه لكل كادر في المستشفى بكل تقدير واحترام، ما تقومون به ليس مجرد عمل، بل رسالة إنسانية ووطنية سامية، وإن استمرار تقديم الخدمات وسط الخطر، وتأمين العلاج لآلاف المرضى، يُجسد أسمى معاني الانتماء والالتزام، فخورون بكم، وبمستشفى يُعدُّ رمزاً للصمود والثبات”.
د. أبو رمضان: “مستشفى جنين الحكومي يعمل ضمن منظومة صحية تكاملية مع كافة مستشفيات المحافظة والمدن المجاورة، رغم الظروف الصعبة، هدف الجميع واحد: إنقاذ الأرواح وتقديم الرعاية، لأن العمل الطبي ليس تنافساً، بل تعاون إنساني في مواجهة الخطر”.
انقطاع الكهرباء كان واقعاً، والاستجابة كانت استثنائية
تعمّد الاحتلال مرات كثيرة تدمير شبكات الكهرباء المغذية للمستشفى، ما اضطر الطواقم للاعتماد الكامل على مولدات الكهرباء الداخلية، وفي إحدى الفترات، عملت المولدات بشكل متواصل لمدة 5 أيام دون توقف، مما شكّل ضغطاً هائلاً على المعدات، وكانت فرق الصيانة حاضرة ومتأهبة لأي خلل طارئ، وقد أدت دوراً محورياً في الحفاظ على الاستمرارية.
إلى جانب الجهد الداخلي، أدى الشركاء من مختلف الجهات الحكومية والقطاع الخاص ومؤسسات دولية والمجتمع المحلي دوراً يُشهد له في تسريع عمليات الإصلاح رغم المخاطر والدعم بمولد كهربائي، وكانت الاستجابة على قدر الحاجة.
مدير عام المستشفى د. وسام بكر: المدينة تعيش في ظروف طارئة، وقد عملت وزارة الصحة بخطة طوارئ، ترتكز على تزويد وإلزام المستشفيات بالحفاظ على مخزون من الأدوية والمستهلكات الطبية يكفي لثلاثة أشهر على الأقل، وهو ما ساعد على مواصلة تقديم الرعاية الطبية دون انقطاع، حتى في أكثر الأوقات الحرجة، لم نشهد أي نفاد في المخزون رغم تعقيد الظروف.
نحن في مستشفى جنين الحكومي حين ننظر من نوافذ زجاج المستشفى المكسرة بفعل الرصاص، نشاهد الواقع كاملاً، نرى سيارة الإسعاف وفيها المصاب في لحظة حرجة، كل دقيقة تساوي حياة، لكننا نُفتش ونحن وسياراتنا ومعداتنا، ونُجبر على الوقوف عند الحواجز، وننتظر الإذن بينما نبض المصاب يتباطأ في الإسعاف أو بانتظارنا في الطوارئ.
لا أحد منا هنا لم يتأثر، فقدنا زميلنا الدكتور أسيد جبارين شهيداً أمام بوابة المستشفى، كثيرون منا عاشوا أياماً طويلة من التوتر والخوف بعيداً عن عائلتهم.
رغم ذلك، لا زلنا نعمل بكل إيمان بوطننا وواجبنا الإنساني وبكل قدرتنا، بل أكثر.