المستوطنون يستبيحون القدس في خرق جديد لاتفاق “الوضع القائم”

استباح آلاف المستعمرين، من بينهم وزراء في حكومة الاحتلال على رأسهم الوزير المتطرف ايتمار بن غفير، وأعضاء “كنيست”، اليوم الاثنين، شوارع القدس المحتلة وأزقة بلدتها القديمة، في الذكرى الـ58 لاحتلالها حسب التقويم العبري، فيما تسمى “مسيرة الأعلام”، التي رافقها اقتحامات واسعة للمسجد الأقصى المبارك، واعتداءات على المواطنين المقدسيين ومحلاتهم التجارية والصحفيين، واقتحام لمقر وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” في حي الشيخ جراح، ورفع شعارات تطالب بـ “السيطرة عليه واحتلاله”.

ولم تتوقف إسرائيل، منذ احتلالها مدينة القدس في الخامس من حزيران/ يونيو 1967، عن محاولاتها الدؤوبة لتهويد المدينة ومقدساتها الإسلامية والمسيحية وتغيير معالمها، عبر بناء المستعمرات وتوسيعها، والاستيلاء على منازل الفلسطينيين أو هدمها بحجج واهية، والاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى المبارك، والاعتداءات على المصلين، في خرق واضح لاتفاق “الوضع القائم” بالمدينة، الذي ينص على بقاء الوضع في المدينة على ما كان عليه قبيل احتلالها.

ما اتفاق “الوضع القائم”؟

في عام 1852، أصدرت الدولة العثمانية سلسلة مراسيم لإدارة الأماكن المقدسة المسيحية في القدس، وذلك لتنظيم الوصول إليها بعد خلافات متكررة، ليُكرس هذا التنظيم في القانون الدولي ضمن معاهدة برلين عام 1878، ويدعى رسميا اتفاق الوضع القائم أو الراهنستاتيكوStatus Quo).

وضمن معاهدة برلين، توسع القانون ليشمل الأماكن الدينية الإسلامية واليهودية في القدس، ليصبح بعدها اتفاق الوضع القائم في القدس قانونا دوليا ملزما.

ولاحقا، تسلمت المملكة الأردنية الهاشمية الوصاية على المسجد الأقصى المبارك والأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس، كجزء من اتفاق الوضع القائم.

وعقب احتلالها للجزء الشرقي من مدينة القدس في حزيران/يونيو 1967، اعترفت إسرائيل باتفاق الوضع القائم بصورة شكلية لتجنب التصعيد والهجوم الدوليَين، لكن إجراءات حكومات الاحتلال المتعاقبة منذ ذلك الحين حتى اليوم وممارساتها، خرقت هذا الاتفاق بصورة متكررة.

ويستند الوضع القانوني الخاص للمدينة، إلى القانون الدولي، وقرارات الشرعية الدولية، وأبرزها: القرار 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقرار مجلس الأمن الدولي 242 وما تلاهما من قرارات أبرزها: 252 و267 و2334 وغيرها، التي دعت إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلّتها عام 1967، ومن بينها القدس، وبطلان الإجراءات الإسرائيلية الأحادية في الأراضي المحتلة، ومن بينها المدينة المقدسة، بما في ذلك إقامة المستعمرات وتغيير وضع المدينة وطابعها.

وفي أيلول/ سبتمبر 2024، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة بالأغلبية، قرارا يطالب إسرائيل، القوة القائمة بالاحتلال، بـ”إنهاء وجودها غير القانوني في الأرض الفلسطينية المحتلة” بما فيها القدس الشرقية، خلال 12 شهرا، بناءً على فتوى طلبتها الجمعية العامة من محكمة العدل الدولية بشأن الآثار القانونية لسياسات إسرائيل وممارستها في فلسطين.

أبرز الخروقات

وفي تسلسل لأبرز الخروقات لاتفاق “الوضع القائم”، تم رفع علم دولة الاحتلال داخل المسجد الأقصى المبارك فور احتلال المدينة، والاستيلاء على مفاتيح باب المغاربة أحد أبواب المسجد ومنع الفلسطينيين من استخدامه حتى اليوم. ثم احتلت إسرائيل حائط البراق غرب المسجد الأقصى وأطلقت عليه “حائط المبكى”، وهدمت حارة المغاربة بالكامل وهجرت سكانها قسرا.

كما انتهك الاحتلال الاتفاق، عبر إغلاق المسجد الأقصى ساعات وأحيانا أياما، كما حدث بعد احتلاله مباشرة، وخلال هبة باب الأسباط عندما حاول الاحتلال وضع “بوابات إلكترونية” عام 2017، إلى جانب منع أعمال الترميم وعرقلتها، والاعتداء على حراس المسجد وموظفي دائرة الأوقاف الإسلامية واعتقالهم، بالإضافة إلى الحفريات وإنشاء الأنفاق في محيط المسجد وأسفل البلدة القديمة وحول سور القدس، حيث تسببت في أضرار للبنية التحتية الأثرية وتصدعات لبعض معالم المسجد ومنازل المواطنين في البلدة القديمة وفي بلدة سلوان جنوب المسجد.

ومنذ عام 2003، يقتحم المستعمرون المسجد الأقصى بحماية قوات الاحتلال الإسرائيلي 5 أيام في الأسبوع، وفي السنوات العشر الأخيرة بدأوا بأداء صلوات علنية صامتة أثناء اقتحاماتهم، وصولا إلى أداء طقوس تلمودية، ورفع علم دولة الاحتلال داخله.

وفي 29 أيار/ مايو 2022، فرض الاحتلال مشهد “السجود الملحمي” الجماعي في المسجد الأقصى، لأول مرة في تاريخه، وعمل لاحقا على تطبيعه وتحويله إلى مشهد يومي، خاصة في الاقتحامات المركزية، وبقيادة من أعضاء في “الكنيست” الإسرائيلية، وبرعاية من شرطة الاحتلال.

وتسعى “منظمات الهيكل” المزعوم إلى فرض حضور تدريجي لأدوات الطقوس التلمودية في “الأقصى”، حيث سمحت خلال السنوات الماضية بإدخال كتب الأذكار، وملابس الصلاة، وغيرها من أدوات. والآن تحاول هذه الجهات إدخال أدوات أكثر رمزية مثل: لفائف التوراة، والشمعدان، والأبواق المعدنية، وحتى المذبح والقربان الحيواني، ما يشكل تصعيدًا واضحًا يستهدف تغيير الطابع الإسلامي للمسجد.

ومنذ بدء العدوان الإسرائيلي الشامل على شعبنا في قطاع غزة والضفة الغربية، في تشرين الأول/أكتوبر 2023، تسارعت الهجمة الاحتلالية الاستعمارية على مدينة القدس ومقدساتها ومواطنيها الفلسطينيين.

وخلال الأشهر الأولى من العدوان على قطاع غزة، أغلق الاحتلال المسجد بشكل شبه كلي أمام المصلين، وما زال يفرض قيودا على دخول المصلين إلى المسجد. كما اقتحمت شرطة الاحتلال المسجد عدة مرات في غير أوقات اقتحامات المستعمرين، خصوصا خلال صلاة الجمعة، لتعتدي على المصلين والمعتكفين داخله. وباتت تتعمد اقتحام المسجد بزيّها العسكري الرسمي، ونصبت برجا للتجسس أعلى المدرسة التنكزية المطلة على ساحات المسجد، يضم كاميرات مراقبة وأجهزة تنصت ولواقط صوتية ترصد ذبذبات المصلين، كذلك نصبت قوات الاحتلال كاميرات مراقبة جديدة في محيط المسجد الأقصى عند بابي الأسباط والمطهرة، وقرب مئذنة باب السلسلة.

كما نصبت قوات الاحتلال مكعبات إسمنتية وحواجز حديدية متنقلة عند باب الأسباط ومدخل مقبرة باب الرحمة. وركّبت أسلاكا شائكة على سور القدس المحاذي للمسجد الأقصى من جهة باب الأسباط، ونصبت أقفاصا حديدية على ثلاثة أبواب للمسجد وهي: الملك فيصل، والحديد، والغوانمة.

ولم تقتصر اعتداءات الاحتلال على المسجد الأقصى والمقدسات الإسلامية، بل طالت أيضًا المقدسات المسيحية خاصة كنيسة القيامة، والاعتداءات على رجال الدين المسيحيين والمصلين خلال سبت النور وأحد الشعانين، بالإضافة إلى الضرائب التي تفرضها على الكنائس، والاستيلاء على أملاكها.

ويؤكد الخبراء والمختصون بشؤون القدس، أن الاحتلال الإسرائيلي يحاول فرض أمر واقع على الأرض بأن القدس لن تصبح بأي شكل من الأشكال قابلة للتقسيم، مشددين على أن صمود المواطنين المقدسيين وتمسكهم بمدينتهم، أفشل مخططات الاحتلال لتهويدها، حيث لا يستطيع الاحتلال التغلب على الواقع الديمغرافي في المدينة، حتى لو استطاع تهويد الواقع الجغرافي عبر المستعمرات والجدار والحواجز العسكرية.

ـــ