Search
Close this search box.

الأسرى الستة .. من المنتصر؟

455

رام الله- وفا

الكاتب خالد جمعة/ وكالة الانباء والمعلومات الفلسطينية “وفا”

في الأزمان القديمة، كانت طبيعة المعارك أكثر وضوحاً من الشمس، فيها منتصر ومهزوم واضحان، وكانت النتائج غالباً تعرف قبل بدء المعركة، يستنتجها المراقبون من حجم الجيشين المتقاتلين، وعدة كل منهما… إلخ.

هناك حادثة في التاريخ غيرت مفهوم الانتصار والهزيمة، حين قام 300 جندي إغريقي بالتصدي لمليون جندي فارسي “ألف ألف بلغة تلك الأيام”، وكان سبب عزوف بقية الجنود الإغريق عن المشاركة في المعركة، أن العرافة قالت إن الحرب في هذا التوقيت ستجلب الويلات على اليونان واليونانيين، لكن قائداً فذاً رفض تلك النبوءة، وقرر المواجهة، ولم يستجب له غير هؤلاء الفرسان الثلاثمئة، وغني عن القول إن مليون جندي فارسي قد هزموا الجنود الإغريقيين، ولكن بعد أن أوقع هؤلاء القلة خسائر مرعبة في صفوف الفرس، وصار موتهم أسطورة التاريخ القديم والحديث، قوة قليلة تواجه جيشاً جراراً، واعتُبر ذلك نصراً في عرف القادة العسكريين، رغم أنه كان هزيمة في واقع الحال، لكن التصور العام أن المنتصر لم يكن سعيداً بانتصاره مع خسائره الهائلة أمام عدد محدود من الجنود.

الأسرى الستة الذين انتزعوا حريتهم من سجن جلبوع، في السادس من أيلول، هم ستة فقط، هزموا منظومة أمنية كاملة كانت تتبجح أمام العالم أنها المنظومة الأكثر كمالاً ودقة في العالم، هزموها وخرجوا تحت أعين الكاميرات والطائرات والجنود والاستخبارات والكلاب البوليسية، خرجوا ليضربوا المثيولوجيا التوراتية في مقتل.

مروا بقراهم المدمرة والتي أنشأ الاحتلال فوقها مستوطناته، أكلوا من صبارها وجوافتها وتينها وبرتقالها، تنفسوا هواءها وقبلوا أطفالها، وتوجه اثنان منهم إلى مدينتهم رغم كل الرقابة التي كان يفرضها جيش الاحتلال، والذي بحسب تصريحات ناطقيه، كان ينفق ستة ملايين دولار يومياً وهو يبحث عنهم.

السؤال هنا، هل انتصر الاحتلال، أم انتصر الأسرى الستة؟

الجواب الذي نطرحه دون تردد، هو أن الأسرى انتصروا، دون كثير من التفاصيل، انتصروا لحظة خروجهم من نفق أعدوه بمقابض القلايات، بأظافرهم، بصبرهم، بإرادتهم، بشجاعتهم التي تقترب من حد الإعجاز، انتصروا على المنظومة الأمنية والعسكرية وغرورها اللامتناهي، ضربوا عيونها التي كانوا يظنون أنها ترى كل شيء، وتراقب كل شيء.

انتصر الأسرى أيضاً حين وحدوا الشعب الفلسطيني كله في الضفة وغزة وأراضي عام 1948، وفي الشتات أيضاً، الجميع بلا استثناء شعر أن هؤلاء أولاده أو أخوته أو جيرانه، كان الجميع معهم لحظة بلحظة يحسب لهم ساعات الحرية بالثانية.

انتصر الأسرى حين نسي الناس في لحظة، إلى أي تنظيمات يتبعون، وصاروا فلسطينيين فقط، لم يفكر أحد بانتمائهم السياسي أو الحزبي، لم يكتب أحد تنظيماً إلى جوار أسمائهم، لأنهم رفعوا سقف الفكرة إلى حدها الأقصى، فلسطين، التي هي أساس المسألة.

انتصر الأسرى أخلاقياً، حين رفضوا اللجوء إلى العائلات العربية باراضي الـ48 كي لا يعرضوهم للمساءلة والتنكيل، وانتصروا حين لامسوا التراب المكون من رفاة أجدادهم على مر آلاف السنين.

انتصر الأسرى حين هزموا آلة الحرب وعيونها وطائراتها وكلابها واستخباراتها، واستطاعوا أن يصلوا إلى جنين، رغم كل ذلك الانتشار الهائل لقوات الجيش في كل نقطة التقاء بين الضفة وأراضي الـ48.

انتصر الأسرى حين فضلوا أن يسلموا أنفسهم حفاظاً على حياة الناس الذين آووهم في بيتهم، لم يكونوا على استعداد للتضحية بالناس بل ضحوا من أجلهم لا بهم.

انتصر الأسرى بذلك البريق من الأمل الذي شعر به كل فلسطيني على وجه الأرض، وكل حر وشريف في هذا العالم، انتصروا بشعاع الضوء الذي أضاء عتمة النفق الذي حفروه، وانتصروا بهزيمة الغرور والعجرفة العسكرية.

انتصر الأسرى لنا ولأنفسهم، حين أعادوا الحركة الأسيرة إلى واجهة المشهد، حين أجبروا الاحتلال على إخلاء السجن الأشد حراسة حسب تعبير الاحتلال، ليقولوا: الحرية تقبع في القلب أولا، ثم تنطلق إلى الخارج، وليس العكس.

انتصر الأسرى، وسوف ينتصرون مرة أخرى، وأخرى، لأنهم يعرفون أن طريق الحرية طويل، ومليء بالعثرات والأشواك، الأشواك التي تشبه تلك التي انغرست في يد محمد العارضة، وهو يتناول صبرة بعد أن اشتهاها لاثنين وعشرين عاماً، وكانت هذه وحدها، عنوانا لانتصار سيجر بعده انتصارات وانتصارات، لأن النصر يأتي فقط، لمن يؤمن بحتميته.

آخر الأخبار

أحدث البرامج